بسم الله الرحمن الرحيم
الانتحال
"قضية الانتحال في الشعر العربي من أبرز القضايا التي طرحت في كتب الأدب العربي، لا سيما فيما يتعلق بالشعر الجاهلي الذي دخله انتحال كثير، وقد تتابع الرواة الثقات بتحقيق وتمحيص ما جاء من تراث في الشعر الجاهلي"[1]
"فالشعر الجاهلي يثير معضلة تتجلى واضحة في تفاوت أساليب المقطوعات الشعرية والقصائد الجاهلية وتظهر أيضا في ترتيب الأبيات الشعرية واختلاف الروايات في مفرداتها وتراكيبها وصياغاتها وهذا من شأنه أن يثير الشك حول صحة الشعر من حيث نسبته إلى صاحبه أو إلى زمانه أو إلى مكانه "[2]
ولقد شاع استخدام مصطلح الانتحال ليدل على قضية الشك في الشعر الجاهلي ويُؤثر بعضهم استخدام مصطلح النحل ويحدده بأنه "وضع قصيدة ما أو بيت من أبيات وإسناد ذلك لغير قائله"[3] ويذهب آخر إلى أن "معنى انتحله وتنحله ادعاه لنفسه ولغيره....ويقال نحل الشاعر قصيدته إذا نسبت إليه وهي لغيره"[4] وقد ميز باحث آخر بين ثلاث مصطلحات وهي: النحل ,والانتحال ,والوضع فالوضع لديه "هو أن ينظم الرجل الشعر ثم ينسبه إلى غيره لأسباب ودواع والانتحال هو ادعاء شعر الغير والنحل أن ينسب الرجل شعر شاعر إلى شاعر آخر"[5] "ومن هنا يمكننا إيجاز الانتحال بأنه نسبة الشعر لغير قائله سواء أكان ذلك بنسبة شعر رجل إلى آخر أم أن يدعي الرجل شعر غيره لنفسه أم أن ينظم شعرا وينسبه لشخص شاعر أو غير شاعر سواء أكان له وجود تاريخي أم ليس له وجود تاريخي"[6]
وقد التفت كثيرا من علماء العربية إلى هذه الظاهرة وشاركهم معهم بعض العلماء المستشرقون وبعض الباحثين العرب المعاصرين وسنتوقف في هذا المقال عند صموئيل مرجليوث وعند طه حسين الذي أثار ضجة كبيره في تناوله لقضية الانتحال في الشعر الجاهلي .
وممن تعرض لقضية الانتحال المستشرق صموئيل مرجليوث الذي نفى أنْ يكون الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا معبراً عن العصر الجاهلي وإنما هو في رأيه نتاج مرحلة تالية لظهور الإسلام .
وعلى الرغم من تأكيد مرجليوث أنَّ الشعر موجود في العصر الجاهلي، بدليل ذكره في القرآن الكريم، فانه يثير شكاً في كيفية انتقاله إلينا من هذه المرحلة، وهو يفترض أنَّ هناك طريقتين لا ثالث لهما : الكتابة أو الرواية الشفوية، أما الكتابة فلم تكن وسيلة ممكنة في نقل الشعر، وهذا ما يؤكده علماء العربية القدامى والمعاصرون، وأما الرواية الشفوية التي يؤكدها العديد من القدامى والمعاصرين فإن مرجليوث يثير حولها شكوكاً، ويبني شكه على أساس عدة أسباب منها إنَّ نقل القصائد بالرواية الشفوية يقتضي وجود حفظة ينقلونها"وليس لدينا ما يدعونا إلى الظن بأن حرفة مثل هذه قد وجدت أو انها بقيت خلال العقود الأولى من الإسلام « ، كما أنَّ الإسلام كان يحث على نسيان القصائد التي كانت تعبر عن انتصارات القبائل بعضها على بعض، لأنها تثير النفوس وتهيج الدماء "[7] .
" ويؤسس مرجليوث شكه من ناحية أخرى على أساس المماثلة بين لغتي القـرآن الكـريم والشعـر الجاهلي، متخذاً من هذا التماثل دليلاً على أنَّ ما وصلنا من الشعر الجاهلي إنما هو وليد مرحلة لاحقة لظهور الإسلام، يضاف إلى هذا أنَّ مرجليوث يلمح ملاحظات تتجلى في طبيعة القصص الديني والألفاظ الإسلامية التي تشيع في الشعر الجاهلي فضلاً عن خلوه من الآثار الدينية الوثنية .
أما عن الشك في الرواية الشفوية فالشعر الجاهلي والصحيح منه بخاصة، قد وصلنا بها وقد أحاط بهذه الطريقة رواة ثقاة وعلماء محققون ومما لاشك فيه أنَّ هناك نصوصاً شعرية وفيرة من الشعـر الجاهلي تعبـر عن المرحلة الجاهلية، وتدل على أصحابها، ومعبرة عن الواقع الاجتماعي في إطار سياقه التاريخي .
أما عن تماثل لغتي القرآن الكريم والشعر الجاهلي أمر يدحضه أنَّ اللغة العربية الموحدة أخذت بالاستقرار والتوحد بوقت غير قصير من ظهور الإسلام، وان الشعراء أخذوا ينظمون قصائدهم بها، كما أنَّ الشعر الجاهلي لا يخلو من مفردات وتراكيب تعبر عن خصائص لهجية معينة، وهذا يعني أنَّ هناك توحداً ليس على مستوى اللغة وحدها، ولكن هناك "مزاجاً حضارياً عاماً قد أخذ منذ أواخر العصر الجاهلي ينتظم هذه البيئة الجاهلية، يقودها إلى التطلع إلى حياة جديدة، وهو مزاج أو قل نقلة حضارية قد قادت إليها ظروف عديدة : سياسية واقتصادية واجتماعية كانت في الحقيقة إرهـاصاً بهذا التغـير الضخم الذي أحـدثه ظهور الإسلام وتمهيداً لـــه".[8]
وكان الشعر الجاهلي معبراً عن حياة وثنية وعابثة في العديد من نصوصه، فضلا عن تسرب الكثير من الآثار الأسطورية التي هي امتداد لتصورات موغلة في تاريخ الجزيرة العربية .
أما طه حسين فقد أثار ضجة كبيرة بعد صدور كتابه » في الشعر الجاهلي « الذي ألب عليه العديد مـن الـدارسين، فضلا عن المحافظين، لأنهم رأوا فيه طعناً في الدين والعقيدة، وتتجلى بعض ملامح هذا الطعن في تعرضه لشخصيتي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وتأكيده أنهما لا يعدوان أن يكونا مجرد شخصيتين أسطوريتين، على الرغم من أنَّ القرآن الكريم قد أشار إليهما وتحدث عنهما يقول طه حسين " للتوراة أنْ تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أنْ يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن، لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى"[9]
ومن ملامح الطعن التي أخذوها عليه أيضاً، ما كان يراه طه حسين في شأن القراءات السبع، لأنه يرى أنَّ هذه القراءات ليست "من الوحي في قليل ولا كثير وليـس منكـرها كافـراً ولا فاسقاً ولا مغتمزاً في دينه، وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها "[10] .
وقد أعاد طه حسين النظر في كتابه هذا، وفصّل فيه القول في كتابه » في الأدب الجاهلي « وأكد أنَّ " الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم اكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أنَّ ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي"[11] .
وقد تفاوتت آراء الدارسين بين من يرى أنَّ طه حسين قد تأثر بالمستشرق صموئيل مرجليوث وبين من يرى أنَّ عدة أشهر بين صدور بحث مرجليوث » أصول الشعر العربي « وصدور كتاب » في الشعر الجاهلي« لا تؤكد هذا التأثر لأنَّ " تأليف طه حسين لهذا الكتاب قد مر بمراحل معينة لها أهميتها في الكشف عن طبيعة الصلة بين كتابه وبحث مرجليوث، فقد كان مشغولاً بتدريسه للطلاب في شكل محاضرات ظل يرددها على مسامعهم عاماً بعد عام، حتى إذا ما ثبت له صحة ما انتهى إليه من الآراء في هذا الشعر وروايته أذاعها بين الناس".[12]
ومما لا ريب فيه إنَّ طه حسين كان يطلع بنهم على آراء المستشرقين إلى حد يعرب فيه عن ثنائه وإعجابه الشديد بهم، وفي معرض حديثه عن أحدهم يقول " إني شديد الإعجاب بالأستاذ » هوار« وبطائفة المستشرقين، وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريح الأدب العربي "[13]
وهذا يعني أنه يتأثر خطاهم ويستفيد من مناهجهم بعامة ومن مرجليوث بخاصة على الرغم من قصر الفترة بين نشر بحث مرجليـوث وصدور كتاب » في الشعر الجاهلي « لأنَّ هناك تطابقاً وتشابهاً بين تصوريهما، بل نستطيع القول إنَّ طه حسين فصَّل القول في النقطتين الجوهريتين اللتين تعرض لهما مرجليوث وهما :
إن الأدب الجاهلي لا يصور حياة العرب الجاهلية الدينية والسياسية والاقتصادية ولذلك فإنه من أجل دراسة حياة العرب الجاهلية فإنه لا يرجع إلى الشعر لأنه لا يعبر عن هذه الحياة، ولذلك فهو ينكر أنْ يمثل هذا الأدب الحياة الجاهلية، ولذلك فإنه لا يسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير وإنما يسلك إليها طـريقا آخـر " في نص لا سبيـل إلى الشك في صحته ...(هو) القرآن "[14] .
إن الأدب الجاهلي لا يعبر عن لغة العرب الجاهلية واختلاف لهجاتها، ويستدل على ذلك بقراءة المعلقات ـ مثلا ـ التي هي في حقيقتها لشعـراء من قبائـل متعددة، ويرى أنها صورة للغة واحدة وليست ذات خصائص لهجية مختلفة، أذ يرى " أنَّ كل شيء في هذه المطولات يدل على أنَّ اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيراً ما فنحن بين أثنين : إما أنْ نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان لا في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أنْ نعترف بأنَّ هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل، وإنما حمل عليها بعد الإسلام حملا، ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى".[15]
ولا نريد أنْ نكرر القول في الرد على هاتين النقطتين، فقد سبق أنْ تناولناهما في أثناء حديثنا عن المستشرقين بعامة، ومرجليوث بخاصة، ولكن من المفيد أن نؤكد أنَّ منهج طه حسين كان يفتقر إلى مقومين أساسيين وهما :
فساد المقدمات التي أرسى في ضوئها تصوراته مما أثر في صحة النتائج . ومما يدخل في هذا السياق تغيير طه حسين للنصوص التي يقتبسها من كتب القدامى لتعضيد وجهة نظره، فهو ينقل عن ابن سلام الجمحي رواية عن أبي عمرو بن العلاء مفادها " ما لسان حمير بلساننا ولالغتهم بلغتنا " [16] وصوابه " ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا " [17]
ويكرر طه حسين بعض آراء ابن سلام الجمحي ويضيف إليها أخريات، مما لا مبرر لإعادة الحديث عنه أو التفصيل فيه، و كأن طه حسين يتحدث عن أسباب النحل فيرجعها إلى أسباب سياسية ودينية أو يرجعها إلى الرواة أو إلى أثر القصص أو إلى الشعوبية"[19]
المصادر والمراجع:
1_ ناصر الدين الأسد, مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخة ,دار المعارف,مصر
2- محمد عثمان علي,في أدب ماقبل الإسلام, دار الأوزاعي.بيروت
3_ جواد علي , المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ,دار العلم للملاين,بيروت,مكتبة النهضه,بغداد.1978
4- عبد العزيز نبوي ,دراسات في الأدب الجاهلي ,الصدر لخدمات الطباعه ,القاهره ,الطبعه الثانيه
5_ محمد عثمان علي,في أدب ماقبل الإسلام, دار الأوزاعي .بيروت
6- كريم الوائلي ,الشعر الجاهلي قضاياه وظواهره الفنية ,دار العالميه
7_ ابراهيم عبد الرحمن ,الشعر الجاهلي,قضاياه الفنية والموضوعية,دار النهضة العربية ,بيروت ,1980.
8- طه حسين , في الأدب الجاهلي ,مطبعة فاروق (محمد عبد الرحمن محمد) ,القاهره ,1352_1933
9- ابن سلام الجمحي ,طبقات فحول الشعراء,دار المدني ,جده تحقيق محمود محمد
اهل الأدب والبلاغة
[9] طه حسين ,في الأدب الجاهلي, ,مطبعة فاروق (محمد عبد الرحمن محمد) ,القاهره ,1352_1933,ص26
[10] نفسه , ص97
[11] نفسه, ص67
[12] ابراهيم عبد الرحمن , الشعر الجاهلي ,ص131_132
[14] نفسه,ص140_141
[15] نفسه ,ص96
[16] طه حسين ,في الأدب الجاهلي, ص83
[17] ابن سلام الجمحي ,طبقات فحول الشعراء,دار المدني ,جده تحقيق محمود محمد شاكر 1\26
[18] عبد العزيز نبوي ,دراسات في الأدب الجاهلي ,ص102
0 التعليقات:
إرسال تعليق