شعار اهل الادب والبلاغة

شعار اهل الادب والبلاغة
اهل الادب والبلاغة

تعديل

الخميس، 26 ديسمبر 2013

اختصار لمواضيع من علم المعاني من كتاب بغية الإيضاح - اهل الأدب والبلاغة

بسم الله الرحمن الرحيم
(متن الايضاح)
اختصار مواضيع علم المعاني من كتاب بغية الإيضاح
دبلوم ادب وبلاغة   (adb-blagh.blogspot.com)
اعتذر إن كان هنالك نقص
فضلاُ من كان له جهد في أي مادة مهما قل فليضعه المدونة

ص35
أبواب علم المعاني:ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب:أولها: أحوال الإسناد الخبري.وثانيها: أحوال المسند إليه.وثالثها: أحوال المسند.ورابعها: أحوال متعلقات الفعل.وخامسها: القصر.وسادسها: الإنشاء.وسابعها: الفصل والوصل.وثامنها: الإيجاز والإطناب والمساواة.ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء؛ لأنه إما أن يكون لنسبته خارج1تطابقه أو لا تطابقه، أو لا يكون لها خارج؛ الأول: الخبر، والثاني: الإنشاء، ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند، وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى.ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا، أو متصلا به، أو في معناه2 كاسم الفاعل ونحوه، وهذا هو الباب الرابع.ثم الإسناد والتعلق، كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر، وهذا هو الباب الخامس.والإنشاء هو الباب السادس.ثم الجملة إذا قرنت بأخرى؛ فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع.
__________
ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة، أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن.تنبيه:انحصار الخبر في الصادق والكاذب:اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب1؛ فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما، ثم اختلفوا؛ فقال الأكثر منهم: صدقه مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه له، هذا هو المشهور، وعليه التعويل.
__________
ص40
الباب الأول: القول في أحوال الإسناد الخبري
أغراض الخبر: من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم؛ كقولك: "زيد قائم" لمن لا يعلم أنه قائم، ويسمى هذا1 فائدة الخبر، وإما كون المخبر عالما بالحكم؛ كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك: "زيد عندك"، ويسمى هذا2 لازم فائدة الخبر.
ص51
فصل: الحقيقة والمجاز العقليان
الإسناد منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي1.أما الحقيقة فهي إسناد الفعل2 -أو معناه- إلى ما هو له3 عند المتكلم في الظاهر4.والمراد بمعنى الفعل نحو المصدر واسم الفاعل5.
_________
وقولنا: "في الظاهر" ليشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع، وما لا يطابقه؛ فهي أربعة أضرب:أحدها: ما يطابق الواقع واعتقاده؛ كقول المؤمن: "أنبت الله البقل، وشفى الله المريض".والثاني: ما يطابق الواقع دون اعتقاده؛ كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يُخفيها منه1: "خالق الأفعال كلها هو الله تعالى".والثالث: ما يطابق اعتقاده دون الواقع؛ كقول الجاهل: "شفى الطبيب المريض" معتقدا شفاء المريض من الطبيب، ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] ، ولا يجوز أن يكون مجازا، والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ؛ لما فيه من إيهام الخطأ2، بدليل3 قوله تعالى عقيبه: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] . والمتجوز المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن، وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله.والرابع: ما لا يطابق شيئا منهما؛ كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالما بحالها دون المخاطب4.
ص53
تعريف المجاز العقلي: وأما المجاز فهو إسناد الفعل1، أو معناه، إلى ملابس له2، غير ما هو له بتأول3.وللفعل4 ملابسات شتى: يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب5.فإسناده إلى الفاعل: إذا كان مبنيا له حقيقة كما مر، وكذا إلى المفعول: إذا كان مبنيا له6. وقولنا: "ما هو له" يشملهما.وإسناده إلى غيرهما7 -لمضاهاته8 ما هو له في ملابسة الفعل- مجاز؛ كقولهم في المفعول به9:
__________
عيشة راضية، وماء دافق1، وفي عكسه: سيل مفعم2، وفي المصدر: شعر شاعر3، وفي الزمان: نهاره صائم، وليله قائم4، وفي المكان: طريق سائر، ونهر جارٍ5، وفي السبب: "بنى الأمير المدينة". وقال:إذا رد عافي القِدْر من يستعيرها6
وقولنا: "بتأول" يخرج نحو قول الجاهل: "شفى الطبيب المريض"؛ فإن إسناده
__________
الشفاء إلى الطبيب ليس بتأول. ولهذا لم يحمل نحو قول الشاعر الحماسي "المتقارب":أشاب الصغير وأفنى الكبيـ ... ـر كر الغداة ومر العشي1
على المجاز، ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يُرِدْ ظاهره2، كما استُدل على أن إسناد "ميز" إلى "جذب الليالي" في قول أبي النجم "من الرجز":قد أصبحت أم الخيار تدعي
علي ذنبا كله لم أصنع
من أن رأت رأسي كرأس الأصلع
ميز عنه قنزعا عن قنزع
جذب الليالي أبطئي أو أسرعي3
مجاز؛ بقوله عقيبه:أفناه قيل الله للشمس: اطلعي ... حتى إذا واراكِ أفق فارجعي4
__________
ص95
أقسام المجاز العقلي:ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه -أعني: المسند والمسند إليه- أربعة أقسام لا غير؛ لأنهما إما حقيقتان4؛
__________
كقولنا: "أنبت الربيع البقل"، وعليه قوله "الرجز":
فنام ليلي وتجلى همي1
وقوله:وشيّب أيام الفراق مفارقي2
وقوله:ونمتِ ما ليل المطي بنائم3
وإما مجازان4 كقولنا: "أحيا الأرضَ شبابُ الزمان"5.وإما مختلقان: كقولنا: "أنبت البقلَ شبابُ الزمان"، وكقولنا: "أحيا الأرض الربيع" وعليه قول الرجل لصاحبه: "أحيتني رؤيتك" أي: آنستني وسرتني, فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة حياة، ثم جعل الرؤية فاعلة له.ومثله قول أبي الطيب "من الطويل":
__________
وتُحيي له المالَ الصوارمُ والقنا ... ويقتل ما تُحيي التبسم والجدا1
جعل الزيادة والوفور حياة للمال، وتفريقه في العطاء قتلا له، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم، والقتل فعلا للتبسم، مع أن الفعل لا يصح منهما. ونحوه قولهم: "أهلك الناس الدينار والدرهم" جعلت الفتنة إهلاكا، ثم أثبت الإهلاك فعلا للدينار والدرهم.
__________
غير موكد دخوله:ص69
الباب الثاني: القول في أحوال المسند إليه
أغراض حذف المسند إليه:أما حذفه: فإما لمجرد الاختصار1 والاحتراز عن العبث بناء2 على الظاهر.وإما لذلك مع ضيق المقام3.وإما لتخييل4 أن في تركه تعويلا على شهادة العقل، وفي ذكره تعويلا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر, وكم بين الشهادتين!وإما لاختبار تنبه السامع له عند القرينة5، أو مقدار تنبهه6.
__________
وإما لإيهام أن في تركه تطهيرا له عن لسانك، أو تطهيرا للسانك عنه1.وإما ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه حاجة2.وإما لأن الخبر لا يصلح إلا له، حقيقة أو ادعاء3.وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهتدي إلى مثله إلا العقل السليم والطبع المستقيم4, كقول الشاعر "من الخفيف":قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل5
__________
ص76
أغراض تعريف المسند إليه:أغراض التعريف: وأما تعريفه فلتكون الفائدة أتم1؛ لأن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة في الإعلام به أقوى، ومتى كان أقرب كانت أضعف، وبعده بحسب تخصيص2 المسند إليه، والمسند كلما ازداد تخصيصا ازداد الحكم بعدا، وكلما ازداد عموما ازداد الحكم قربا، وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولنا: "شيء ما موجود"، وفي قولنا: "فلان بن فلان يحفظ الكتاب"، والتخصيص: كماله بالتعريف.أغراض التعريف بالإضمار: ثم التعريف مختلف؛ فإن كان بالإضمار: فإما لأن المقام مقام التكلم3؛ كقول بشار "من البسيط":أنا المرعث لا أخفى على أحد ... ذَرَّتْ بي الشمس للقاصي وللداني4
وإما لأن المقام مقام الخطاب؛ كقول الحماسية "من الطويل":
__________
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمتّ بي من كان فيك يلوم1
وإما لأن المقام مقام الغيبة؛ لكون المسند إليه مذكورا أو في حكم المذكور لقرينة2؛ كقوله "من الوافر":من البيض الوجوه بني سنان ... لو أنك تستضيء بهم أضاءوا
هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا3
وقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي: العدل، وقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] أي: ولأبوي الميت4.وأصل الخطاب أن يكون لمعين، وقد يُترك إلى غير معين5؛ كما تقول: "فلان لئيم، إذا أكرمتَه أهانك، وإن أحسنتَ إليه أساء إليكَ" فلا تريد مخاطبا بعينه، بل تريد إن أُكرم أو أُحسن إليه، فتُخرجه في صورة الخطاب؛ ليفيد العموم؛ أي: سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد. وهو في القرآن كثير، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] أُخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تفظيع حالهم، وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها؛ فلا تختص بها رؤية راءٍ مختص به، بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب6.
ص78
أغراض التعريف بالعَلَمِيّة:وإن كان بالعلمية: فإما لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به1 كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 [الإخلاص: 1] .وقول الشاعر "من المتقارب":أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه3
وقوله "من الكامل":الله يعلم ما تركتُ قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد4
وإما لتعظيمه، أو لإهانته، كما في الكنى، والألقاب المحمودة والمذمومة5
________
وإما للكناية حيث الاسم صالح لها1، ومما ورد صالحا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] أي: جهنميّ.وإما لإيهام2 استلذاذه، أو التبرك به.وإما لاعتبار آخر مناسب3.
ص80
أغراض التعريف بالموصولية:وإن كان بالموصولية: فإما لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة1 كقولك: "الذي كان معنا أمس رجل عالم".وإما لاستهجان التصريح بالاسم.وإما لزيادة التقرير، نحو قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] فإنه مسوق لتنزيه يوسف -عليه السلام- عن الفحشاء، والمذكور أدل عليه من "امرأة العزيز" وغيره2.
_______
وإما للتفخيم؛ كقول تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] .وقول الشاعر "من البسيط":مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي1
ومنه في غير هذا الباب قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} 2 [النجم: 54] .وبيت الحماسة "من الطويل":صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: أبعد3
وقول أبي نواس "من الكامل":ولقد نَهَزْتُ مع الغُواة بدلوهم ... وأَسَمْتُ سرح اللَّحْظ حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام4
__________
وإما لتنبيه المخاطب على خطئه؛ كقول الآخر "من الكامل":إن الذين تُرَوْنَهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا1
وإما للإيماء إلى وجه بناء الخبر2؛ نحو: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .ثم إنه3 ربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر4, كقوله "الكامل":إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول5
أو لشأن غيره6 نحو: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 92] .قال السكاكي7: "وربما جُعل ذريعة إلى تحقيق الخبر"؛ كقوله "من البسيط":إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت وُدّها غُول8
وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على خطأ؛ كقوله:
"
إن الذين ترونهم...." "البيت".وفيه نظر؛ إذ لا يظهر بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر فرق9، فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني, والمسند إليه في البيت الثاني ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه، بل لا يبعد أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه10؟!
__________
ص83
أغراض التعريف بالإشارة:وإن كان بالإشارة؛ فإما لتمييزه أكمل تمييز لصحة إحضاره في ذهن السامع بواسطة الإشارة حسا1؛ كقوله "الطويل":
__________
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه1
وقوله "من الطويل":أولئك قوم إن بَنَوْا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا2
وقوله "من الكامل":وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال ليل أغبر
أوما إلى الكَوْماء: هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري3
وقوله "من البسيط":ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان: عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد4
__________
وإما للقصد إلى أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحس؛ كقول الفرزدق "من الطويل":أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع1
وإما لبيان حاله في القرب أو البعد أو التوسط2؛ كقولك: "هذا زيد، وذلك عمرو، وذاك بشر". وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير3 كقوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36] , وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41] , وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64] . وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26] ، وقول عائشة -رضي الله عنها- لعبد الله بن عمرو بن العاص: "يا عجبا لابن عمرو هذا"4.وقول الشاعر "من الطويل":تقول ودقت نحرها بيمينها: ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس؟ 5
وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم؛ كقوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ}
__________
[البقرة: 1، 2] ذهابا إلى بعد درجته، ونحوه: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف: 72] ، ولذا قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] ، لم تقل: "فهذا" وهو حاضر1؛ رفعا لمنزلته في الحسن، وتمهيدا للعذر في الافتتان به.وقد يجعل "البعد" ذريعة إلى التحقير، كما يقال: "ذلك اللعين فعل كذا".وإما للتنبيه -إذا ذُكر قبل المسند إليه مذكور2 وعُقِّب بأوصاف- على أن ما يرد بعد اسم الإشارة المذكور جدير باكتسابه من أجل تلك الأوصاف؛ كقول حاتم الطائي "من الطويل":ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما3
فتى طلبات لا يرى الخمْص تَرْحَة ... ولا شِبْعة إن نالها عد مغنما4
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صَمَّما5
ترى رمحه ونبله ومِجَنّه ... وذا شُطَب عَضْب الضريبة مِخْذَما6
وأحناء سرج قاتر ولجامه ... عتاد أخي هَيْجا وطِرْفا مُسَوَّما7
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما8
فعدّد له -كما ترى- خصالا فاضلة من المَضَاء على الأحداث مُقْدِما، والصبر على ألم الجوع، والأنفة من عد الشبعة مغنما، وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، ثم عقب ذلك بقوله: "فذلك"، فأفاد أنه جدير باتصافه بما ذُكر بعده. وكذا قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربهم والفلاح.وإما لاعتبار آخر مناسب9.
__________
ص85
أغراض التعريف باللام:وإن كان باللام: فإما للإشارة إلى معهود3 بينك وبين مخاطبك؛ كما إذا قال لك قائل: "جاءني رجل من قبيلة كذا" فتقول: "ما فعل الرجل؟ ". وعليه قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] أي: وليس الذكر الذي طلبتْ4 كالأنثى التي وُهِبتْ لها.
__________
وإما لإرادة نفس الحقيقة1؛ كقولك: "الرجل خير من المرأة، والدينار خير من الدرهم"، ومنه قول أبي العلاء المعري "من البسيط":والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر2
وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أي: جعلنا مبدأ كل شيء حي من هذا الجنس الذي هو الماء؛ لما روي أنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه. ونحوه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89] .والمعرف باللام3 قد يأتي لواحد4 باعتبار عهديته في الذهن5؛ لمطابقته الحقيقة6؛ كقولك: "ادخل السوق" وليس بينك وبين مخاطبك سوق معهود في الخارج، وعليه قول الشاعر "من الكامل":
__________
ولقد أَمُرّ على اللئيم يسبني1
وهذا يقرب في المعنى من النكرة2؛ ولذلك يقدر: "يسبني" وصفا للئيم، لا حالا3.وقد يفيد الاستغراق؛ وذلك إذا امتنع حمله على غير الأفراد، وعلى بعضها دون بعض4؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3] .والاستغراق ضربان:حقيقي5 كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] أي: كل غيب وشهادة، وعرفي6 كقولنا: "جمع الأمير الصاغة" إذا جمع صاغة بلده أو أطراف
__________
مملكته فحسب، لا صاغة الدنيا1.واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع2، بدليل أنه لا يصدق: "لا رجلَ في الدار" في نفي الجنس3 إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق: "لا رجالَ في الدار" ولا تنافي بين الاستغراق وإفراد اسم الجنس4؛ لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردا عن الدلالة على الوحدة والتعدد5، ولأنه بمعنى كل الإفرادي6 لا كل المجموعي؛ إذ معنى قولنا: "الرجل" كل فرد من أفراد الرجال، لا مجموع الرجال؛ ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع7، وللمحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف أيضا.فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام: إما نفس الحقيقة، لا ما يصدق عليه من الأفراد، وهو تعريف الجنس والحقيقة, ونحوه عَلَم الجنس "كأسامة"، وإما
__________
فرد معين، وهو العهد الخارجي، ونحوه العلم الخاص "كزيد"، وإما فرد غير معين، وهو العهد الذهني، ونحوه النكرة "كرجل"، وإما كل الأفراد؛ وهو الاستغراق، ونحوه لفظ "كل" مضافا إلى النكرة كقولنا: "كل رجل".وقد شكك السكاكي1 على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا2، ثم اختار3 -بناء على ما حكاه عن بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير4- أن المراد بتعريف الحقيقة تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية؛ إما لكون الشيء حاضرا في الذهن لكونه محتاجا إليه على طريق التحقيق أو التهكم5، أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم6 على أحد الطريقين7، وإما لأنه لا يغيب عن الحس8 على أحد الطريقين لو كان معهودا9.وقال10: الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا متعددة؛ لتحققها مع الوحدة تارة ومع التعدد أخرى، وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما، فهي صالحة للتوحد والتكثر؛ فكون الحكم استغراقا أو غير استغراق "راجع" إلى مقتضى المقام11، فإذا كان خطابيا12 مثل "المؤمن غِرّ كريم، والفاجر خَبّ لئيم" حُمل المعرف باللام -مفردا كان أو جمعا- على الاستغراق؛ بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر -مع تحقق الحقيقة فيهما- ترجيح لأحد المتساويين، وإذا كان استدلاليا حُمل على أقل ما يحتمل، وهو الواحد في المفرد، والثلاثة في الجمع13.
__________
أغراض التعريف بالإضافة:وإن كان بالإضافة:فإما لأنه ليس للمتكلم إلى إحضاره في ذهن السامع طريق أخصر منها؛ كقوله "من الطويل":هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جَنِيب وجثماني بمكة مُوثَق6
__________
وإما لإغنائها عن تفصيل متعذر أو مرجوح لجهة1؛ كقوله "من الطويل":بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غِيل خَفّان أَشْبُل2
وقوله "الكامل":قومي هُمُ قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي3
وإما لتضمنها تعظيما لشأن المضاف إليه؛ كقولك: "عبدي حضر" فتعظم شأنك, أو تعظيما لشأن المضاف؛ كقولك: "عبد الخليفة ركب" فتعظم شأن العبد، أو لشأن غيرهما؛ كقولك: "عبد السلطان عند فلان" فتعظم شأن فلان.أو تحقيرا نحو: "ولد الحجام حضر"4, وإما لاعتبار آخر مناسب5.
__________
أغراض تنكير المسند إليه:وأما تنكيره: فللإفراد1 كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] ؛ أي: فرد من أشخاص الرجال. أو للنوعية؛ كقوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] أي: نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس2 وهو غطاء التعامي عن آيات الله.ومن تنكير غير المسند إليه للإفراد قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] . وللنوعية: قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] أي: نوع من الحياة مخصوص وهو الحياة الزائدة، كأنه قيل: "لتجدنهم أحرص الناس وإن عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في الماضي
__________
والحاضر حياة في المستقبل"؛ فإن الإنسان لا يوصف بالحرص على شيء، إلا إذا لم يكن ذلك الشيء موجودا له حال وصفه بالحرص عليه، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] يحتمل الإفراد والنوعية؛ أي: خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة، أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه.أو للتعظيم والتهويل أو للتحقير: أي ارتفاع شأنه أو انحطاطه إلى حد لا يمكن معه أن يعرف، كقول ابن أبي السمط "من الطويل":له حاجب عن كل أمر يَشِينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب1
أي: له حاجب أيّ حاجب، وليس له حاجب ما.أو للتكثير2: كقولهم: "إن له لإبلا، وإن له لغنما" يريدون الكثرة. وحمل الزمخشري التنكير في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الأعراف: 113] عليه.أو للتقليل3 كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]
__________
أي: وشيء ما من رضوانه أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راضٍ عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تهنأ له برضاه، كما أنه إذا علم بسخطه تنغّصت عليه، ولم يجد لها لذة، وإن عظمت.وقد جاء للتعظيم والتكثير جميعا، كقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] أي: رسل ذوو عدد كثير, وآيات عظام1، وأعمار طويلة، ونحو ذلك.والسكاكي2 لم يفرق بين التعظيم والتكثير، ولا بين التحقير والتقليل، ثم جعل التنكير في قولهم: "شر أهر ذا ناب" للتعظيم، وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46] لخلافه، وفي كليهما نظر؛ أما الأول فلما سيأتي3، وأما الثاني فلأن خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة، ومن نفس الكلمة4؛ لأنها إما من قولهم: "نفحت الريح" إذا هبت, أي: هبة، أو من قولهم: "نفح الطيب" إذا فاح, أي: فوحة، كما يقال: شمة, واستعماله بهذا المعنى في الشر استعارة؛ إذ أصله أن يستعمل في الخير؛ يقال: "له نفحة طيبة" أي: هبة من الخير. وذهب أيضا إلى أن قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] بالتنكير دون "عذاب الرحمن" بالإضافة؛ إما للتهويل أو لخلافه5، والظاهر أنه لخلافه، وإليه
__________
ميل الزمخشري؛ فإنه ذكر أن إبراهيم -عليه السلام- لم يُخْلِ هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه؛ حيث لم يصرح فيه أن العذاب لاحق له لاصق به، ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] فذكر الخوف والمسّ، ونكّر العذاب.وأما التنكير في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فيحتمل النوعية والتعظيم؛ أي: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة؛ لمنعه عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا، أو نوع من الحياة وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعلم بالاقتصاص؛ فإن الإنسان إذا همّ بالقتل تذكر الاقتصاص فارتدع، فسلم صاحبه من القتل وهو من القَوَد، فتسبّبَ لحياة نفسين.ومن تنكير غير المسند إليه للنوعية: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الشعراء: 173] أي: وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا، يعني: الحجارة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} 1 [الشعراء: 173] ، وللتحقير2: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} [الجاثية: 32] 3.
__________
ص109
أغراض التقديم:وأما تقديمه فلكون ذكره أهم؛ إما لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه1، وإما ليتمكن الخبر في ذهن السامع؛ لأن في المبتدأ تشويقا إليه؛ كقوله "من الخفيف":والذي حارت البَرِيَّة فيه ... حيوان مستحدث من جماد2
وهذا أولى من جعله شاهدا؛ لكون المسند إليه موصولا كما فعل السكاكي3.وإما لتعجيل المسرة أو المساءة؛ لكونه صالحا للتفاؤل أو التطير؛ نحو: "سعد في دارك، والسفاح في دار صديقك".وإما لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر، أو أنه يُستلذ، فهو إلى الذكر أقرب4.وإما لنحو ذلك5.
قال السكاكي1: "وإما لأن كونه متصفا بالخبر يكون هو المطلوب، لا نفس الخبر؛ كما إذا قيل لك: كيف الزاهد؟ فتقول: الزاهد يشرب ويطرب".وإما لأنه يفيد زيادة تخصيص؛ كقوله "من الوافر":متى تهزز بني قطن تجدهم ... سيوفا في عواتقهم سيوف
جلوس في مجالسهم رِزَان ... وإن ضيف ألم فهم خفوف2
والمراد: "هم خفوف". وفيه نظر؛ لأن قوله: "لا نفس الخبر" يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر، وهو باطل3؛ لأن نفس الخبر تصور لا تصديق، والمطلوب بها إنما يكون تصديقا، وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقا فغير صحيح أيضا؛ لما سيأتي4 أن العبارة عن مثله لا يتعرض فيها إلى ما هو مسند إليه؛ كقولك: "وقع القيام".ثم في مطابقة الشاهد الذي أنشده للتخصيص نظر5؛ لما سيأتي أن ذلك مشروط
__________
بكون الخبر فعليا، وقوله: "والمراد هم خفوف" تفسير للشيء بإعادة لفظه1.قال عبد القاهر2: وقد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي إن وَلِيَ حرف النفي3 كقولك: "ما أنا قلت هذا" أي: لم أقله مع أنه مَقُول؛ فأفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك، فلا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مقول وأنت تريد نفي كونك قائلا له. ومنه قول الشاعر "من المتقارب":وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلوب نارا4
إذ المعنى أن هذا السَّقْم الموجود والضَّرَم الثابت ما أنا جالب لهما؛ فالقصد إلى نفي كونه فاعلا لهما لا إلى نفيهما؛ ولهذا لا يقال: "ما أنا قلت ولا أحد غيري" لمناقضة منطوق الثاني5 لمفهوم الأول6, بل يقال: "ما قلت أنا ولا أحد غيري" ولا يقال: "ما أنا رأيت أحدا من الناس" ولا: "ما أنا ضربت إلا زيدا" بل يقال: "ما رأيت أو ما رأيت أنا أحدا من الناس، و: ما ضربت أو ما ضربت أنا إلا زيدا"؛ لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على كل واحد من الناس، وفي الثاني الضرب الواقع
__________
على كل واحد منهم سوى زيد1. وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور هو ما نُفي عن المذكور، فيكون الأول مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد رأى كل الناس، والثاني مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد ضرب مَنْ عدا زيدا منهم؛ وكلاهما محال. وعلل الشيخ عبد القاهر والسكاكي2 امتناع الثاني بأن نقض النفي بـ "إلا" يقتضي أن يكون القائل له قد ضرب زيدا، وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ألا يكون ضربه، وذلك تناقض.وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ذلك، فإن قيل: الاستثناء الذي فيه مفرَّع، وذلك يقتضي ألا يكون ضرب أحدا من الناس، وذلك يستلزم ألا يكون ضرب زيدا؛ قلنا: إن لزم ذلك3 فليس للتقديم؛ لجريانه في غير صورة التقديم أيضا؛ كقولنا: "ما ضربت إلا زيدا".هذا إذا ولي المسند إليه حرف النفي، وإلا فإن كان معرفة؛ كقولك: "أنا فعلت" كان القصد إلى الفاعل4، وينقسم قسمين:أحدهما: ما يفيد تخصيصه بالمسند5 للرد على من زعم انفراد غيره به، أو
__________
مشاركته فيه؛ كقولك: "أنا كتبت في معنى فلان، وأنا سعيت في حاجته"؛ ولذلك إذا أردتَ التأكيد قلتَ للزاعم في الوجه الأول: "أنا كتبت في معنى فلان لا غيري" ونحو ذلك، وفي الوجه الثاني: "أنا كتبت في معنى فلان وحدي". فإن قلت: "أنا فعلت هذا وحدي" في قوة "أنا فعلته لا غيري" فلِمَ اختص كل منهما بوجه من التأكيد دون وجه؟ قلت: لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة شبهة خالجت قلب السامع، وكانت في الأول أن الفعل صدر من غيرك، وفي الثاني أنه صدر منك بشركة الغير، أكدت وأمطت الشبهة في الأول بقولك: "لا غيري"، وفي الثاني بقولك: "وحدي"؛ لأنه مَحَزُّه، ولو عكست أحلْت1.ومن البين في ذلك2 المَثل: "أتُعلمني بضب أنا حَرَشْتُه؟! "3. وعليه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] أي: لا يعلمهم إلا نحن، ولا يطلع على أسرارهم غيرنا؛ لإبطانهم الكفر في سُوَيداوات قلوبهم.الثاني: ما لا يفيد إلا تقوِّي الحكم وتقرره في ذهن السامع وتمكنه، كقولك: "هو يعطي الجزيل" لا تريد أن غيره لا يعطي الجزيل، ولا أن تعرض بإنسان، ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع وتحقق أنه يفعل إعطاء الجزيل، وسبب تقويه هو أن المبتدأ يستدعي أن يستند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يستند إليه صرفه إلى نفسه، فينعقد بينهما حكم سواء كان خاليا عن ضميره؛ نحو: "زيد غلامك"، أو متضمنا له، نحو: "أنا عرفت، وأنت عرفت، وهو عرف أو زيد عرف"، ثم إذا كان
__________
متضمنا لضميره صرفه ذلك الضمير إليه ثانيا؛ فيكتسي الحكم قوة1.ومما يدل على أن التقديم2 يفيد التأكيد أن هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر؛ نحو أن يقول الرجل: "ليس لي علم بالذي تقول" فتقول: "أنت تعلم أن الأمر على ما أقول"، وعليه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] ؛ لأن الكاذب -لا سيما في الدين- لا يعترف بأنه كاذب، فيمتنع أن يعترف بالعلم بأنه كاذب.وفيما اعترض فيه شك: نحو أن تقول للرجل: "كأنك لا تعلم ما صنع فلان؟ " فيقول: "أنا أعلم".وفي تكذيب مُدّعٍ: كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] فإن قولهم "آمنا" دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به.وفيما يقتضي الدليل أن لا يكون: كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] فإن مقتضى الدليل أن لا يكون ما يُتخذ إلها مخلوقا.وفيما يستغرب: كقولك: "ألا تعجب من فلان؟ يدعي العظيم وهو يَعْيَا باليسير".وفي الوعد والضمان: كقولك للرجل: "أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر"؛ لأن من شأن من تَعِدُه وتضمن له أن يعترضه الشك في إنجاز الوعد والوفاء بالضمان، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد.
__________
ص117
واشترط السكاكي2 في إفادة التقديم الاختصاص 3 أمرين:أحدهما: أن يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرا بأن يكون فاعلا في المعنى فقط؛ كقولك: "أنا قمت" فإنه يجوز أن تقدر أصله: "قمت أنا" على أن "أنا" تأكيد للفاعل4 الذي هو التاء في قمت، فقدم "أنا" وجعل مبتدأ.وثانيهما: أن يقدر كونه كذلك.فإن انتفى الثاني دون الأول كالمثال المذكور إذا أُجري على الظاهر، وهو أن
__________
يقدر الكلام من الأصل مبنيا على المبتدأ والخبر، ولم يقدر تقديم وتأخير، أو انتفى الأول بأن يكون المبتدأ اسما ظاهرا1 فإنه لا يفيد إلا تقوّي الحكم.واستثنى المنكر2 كما في نحو: "رجل جاءني" بأن قُدر أصله: "جاءني رجل" لا على أن "رجل" فاعل "جاءني", بل على أنه بدل من الفاعل الذي هو الضمير المستتر في "جاءني"، كما قيل في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] : إن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الواو في "أسروا"، وفرق بينه وبين المعرف بأنه لو لم يقدر ذلك فيه انتفى تخصيصه؛ إذ لا سبب لتخصيصه سواه، ولو انتفى تخصيصه لم يقع مبتدأ3، بخلاف المعرف؛ لوجود شرط الابتداء فيه، وهو التعريف.ثم قال: "وشرطه4 ألا يمنع من التخصيص مانع5 كقولنا: "رجل جاءني" أي: لا امرأة أو لا رجلان، دون قولهم: "شر أهر ذا ناب" أما على التقدير الأول6 فلامتناع أن يراد "المهر شر لا خير"7، وأما على الثاني8 فلكونه نابيا عن مكان استعماله9، وإذ قد صرح الأئمة بتخصيصه حيث تأولوه بـ " ما أهر ذا ناب إلا
__________
شر"، فالوجه تفظيع شأن الشر بتنكيره كما سبق"1.هذا كلامه، وهو مخالف لما ذكره الشيخ عبد القاهر2؛ لأن ظاهر كلام الشيخ فيما يلي حرف النفي القطع بأنه يفيد التخصيص مضمرا كان أو مظهرا، معرفا أو منكرا من غير شرط، لكنه لم يمثّل إلا بالمضمَر، وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا إذا كان مضمرا أو منكرا بشرط تقدير التأخير في الأصل، فنحو: "ما زيد قام" يفيد التخصيص على إطلاق قول الشيخ، ولا يفيده على قول السكاكي، ونحو
__________
"ما أنا قمت" يفيده على قول الشيخ مطلقا، وعلى قول السكاكي بشرط. وظاهر كلام الشيخ أن المعرف إذا لم يقع بعد النفي وخبره مثبت أو منفي قد يفيد الاختصاص مضمرا كان أو مظهرا، لكنه لم يمثل إلا بالمضمر، وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا المضمر؛ فنحو: "زيد قام" قد يفيد الاختصاص على إطلاق قول الشيخ، ولا يفيده عند السكاكي، ثم فيما احتج به لما ذهب إليه نظر؛ إذ الفاعل وتأكيده سواء في امتناع التقديم، ما دام الفاعل فاعلا والتأكيد تأكيدا، فتجويز تقديم التأكيد دون الفاعل تحكّم ظاهر، ثم لا نسلّم انتفاء التخصيص في صورة المنكّر لولا تقدير أنه كان في الأصل مؤخرا فقدم؛ لجواز حصول التخصيص فيها بالتهويل -كما ذكر- وغير التهويل1. ثم لا نسلم امتناع أن يراد: المُهِرّ شر لا خير، قال الشيخ عبد القاهر: إنما قدم "شر" لأن المراد أن يعلم أن الذي أهر ذا ناب هو من جنس الشر لا من جنس الخير2، فجرى مجرى أن تقول: "رجل جاءني" تريد أنه رجل لا امرأة، وقول العلماء: إنه إنما صلح لأنه بمعنى: "ما أهر ذا ناب إلا شر" بيان لذلك، وهذا صريح في خلاف ما ذكره.ثم قال السكاكي3: ويقرب من قَبِيل "هو عرف" في اعتبار تقوي الحكم4:
__________
"زيد عارف"، وإنما قلت: "يقرب" دون أن أقول: "نظيره" لأنه لمّا لم يتفاوت في التكلم والخطاب والغيبة في: "أنا عارف، وأنت عارف، وهو عارف" أشبَهَ الخالي عن الضمير؛ ولذلك لم يحكم على "عارف" بأنه جملة ولا عُومِل معاملتها في البناء1، حيث أُعرب في نحو: "رجلٌ عارفٌ، رجلًا عارفًا، رجلٍ عارفٍ" وأُتبعه في حكم الإفراد، نحو: "زيد عارف أبوه" يعني أُتبع "عارف" "عرف" في الإفراد، إذا أسند إلى الظاهر السكاكي, مفردا كان أو مثنى أو مجموعا2.ثم قال: "ومما يفيد التخصيص ما يحكيه -عَلَتْ كلمته- عن قوم شعيب عليه السلام: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] أي: العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت3؛ لكونهم من أهل ديننا، ولذلك قال عليه السلام في جوابهم: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92] أي: من نبي الله، ولو كان معناه معنى "ما عززت علينا" لم يكن مطابقا. وفيه نظر؛ لأن قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} من باب "أنا عارف"، لا من باب "أنا عرفت"4، والتمسك بالجواب ليس بشيء؛ لجواز أن يكون عليه السلام فهم كون رهطه أعز عليهم من قولهم: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} .وقال الزمخشري: دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام في الفاعل لا
__________
في الفعل، كأنه قيل: "وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا"1. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر، فإن قيل: الكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} ؟ قلنا: قال السكاكي: معناه: من نبي الله، فهو على حذف المضاف، وأجود منه ما قال الزمخشري: وهو أن تهاونهم به -وهو نبي الله- تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله، ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2؟
ويجوز أن يقال: لا شك أن همزة الاستفهام هنا ليست على بابها؛ بل هي للإنكار للتوبيخ، فيكون معنى قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه؛ لانتسابه إليهم دون الله تعالى مع انتسابه إليه أيضا، أي: أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي، ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسوله؟! والله أعلم.
__________
ص134---135
تخريج المسند إليه على خلاف مقتضى الظاهر:
وضع المظهر موضع المضمر:وقد يعكس فيوضع المظهر موضع المضمر؛ فإن كان المظهر اسم إشارة فذلك إما لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بحكم بديع؛ كقوله "من البسيط":كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا1
وإما للتهكم بالسامع: كما إذا كان فاقد البصر، أو لم يكن ثَمَّ مشار إليه أصلا2.وإما للنداء على كمال بلادته بأنه لا يدرك غير المحسوس بالبصر، أو على كمال فطانته بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره، وإما لادعاء أنه كمل
__________
ظهوره حتى كأنه محسوس بالبصر. ومنه في غير باب المسند إليه قوله "من الطويل":تعاللتِ كي أشجى وما بك علة ... تريدين قتلي، قد ظفرتِ بذلك1
وإما لنحو ذلك2.وإن كان المظهر غير اسم إشارة؛ فالعدول إليه عن المضمر إما لزيادة التمكين3 كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] ، ونظيره من غيره قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] ، وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 59] .وقول الشاعر:إن تسألوا الحق نعطِ الحق سائله4
بدل "نعطكم إياه".وإما لإدخال الرَّوْع في ضمير السامع وتربية المهابة, وإما لتقوية داعي المأمور5. مثالهما قول الخلفاء: "أمير المؤمنين يأمرك بكذا". وعليه من غيره: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 1.وإما للاستعطاف، كقوله:إلهي عبدك العاصي أتاكا2
وإما لنحو ذلك3
__________
الالتفات:قال السكاكي4:
__________
هذا1 غير مختص بالمسند إليه، ولا بهذا القدر2، بل التكلم والخطاب والغيبة مطلقا3 ينقل كل واحد منها إلى الآخر، ويسمى هذا النقل "التفاتا" عند علماء المعاني4 كقول ربعية بن مقروم "من البسيط":بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا5
فالتفت كما ترى؛ حيث لم يقل: "وأخلفتني". وقوله "من الطويل":تذكرت والذكرى تهيجك زينبا ... وأصبح باقي وصلها قد تقضبا
وحل بفلج فالأباتر أهلنا ... وشطت فحلت غمرة فمثقبا6
فالتفت في البيتين.والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة, بعد التعبير عنه بطريق آخر منها7.
__________
وهذا أخص من تفسير السكاكي؛ لأنه أراد بالنقل أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره، أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره منها1؛ فكل التفات عندهم التفات عنده، من غير عكس2.مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3 [يس: 22] .
__________
ومن التكلم إلى الغيبة1 قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1، 2] .ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة "من الطويل":طحا بك قلب في الحسان طروب ... بُعَيْد الشباب عصر حان مشيب
يكلفني ليلى وقد شط وَلْيُها ... وعادت عَوادٍ بيننا وخطوب2
ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] .ومن الغيبة إلى التكلم قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9] .ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 4، 5] .وقول عبد الله بن عَنَمَةَ "من البسيط":ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهم ... كما يراه بنو كُوز ومَرهوب
__________
إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرع محقبة والسيف مقروب1
وأما قول امرئ القيس "من المتقارب":تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخَلِيّ ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني ... وخُبِّرتُه عن أبي الأسود2
فقال الزمخشري: "فيه ثلاثة التفاتات"3، وهذا ظاهر على تفسير السكاكي؛ لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة، لا يقال: الالتفات عنده من خلاف مقتضى الظاهر؛ فلا يكون في البيت الثالث التفات لوروده على مقتضى الظاهر؛ لأننا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى4؛ لما تقدم5.
__________
وأما على المشهور1 فلا التفات في البيت الأول، وفي الثاني التفاتة واحدة، فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان، فقيل: هما في قوله: "جاءني" إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول، والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني. وفيه نظر؛ لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتَبَس به؛ وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلا ملتبَسا به؛ فيكون الانتقال إلى التكلم في الثالث من الغيبة وحدها، لا منها ومن الخطاب جميعا؛ فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة، وقيل: إحداهما في قوله: "وذلك"؛ لأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب2، والثانية في قوله: "جاءني"؛ لأنه التفات من الخطاب إلى التكلم، وهذا أقرب.بلاغة الالتفات:واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام، ووجه حسنه -على ما ذكر الزمخشري- هو أن الكلام إذا نُقل من أسلوب إلى أسلوب3 كان ذلك أحسن تطرية4 لنشاط السامع، وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب
__________
واحد1.وقد تختص مواقعه بلطائف2 كما في سورة الفاتحة3؛ فإن العبد إذا افتتح حَمْد مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لما هو فيه بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الدال على اختصاصه بالحمد وأنه حقيق به، وجد من نفسه لا محالة محركا للإقبال عليه، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} الدال على أنه مالك للعالمين، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته، قوي ذلك المحرك، ثم إذا انتقل إلى قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الدال على أنه منعم بأنواع النعم: جلائلها ودقائقها؛ تضاعفت قوة ذلك المحرك، ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام وهي قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الدال على أنه مالك للأمر كله يوم الجزاء تناهت قوته، وأوجب الإقبال عليه وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات4.
__________
وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] لم يقل: "واستغفرت لهم" وعدل عنه إلى طريق الالتفات؛ تفخيما لشأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان.وذكر السكاكي1 لالتفات امرئ القيس في الأبيات الثلاثة على تفسيره وجوها: أحدها أن يكون قصد تهويل الخطب واستفظاعه، فنبه في التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهتْ وَلَه الثكلى، فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلى بعض التسلي إلا بتفجع الملوك له، وتحزنهم عليه، وخاطبها "بتطاول ليلكِ"2 تسلية، أو على أنها لفظاعة شأن النبأ أبدت قلقا شديدا ولم تتصبر -فعل الملوك- فشك في أنها نفسه، فأقامها مقام مكروب، وخاطبها بذلك تسلية, وفي الثاني على أنه صادق في التحزن -خاطب أو لا- وفي الثالث على أنه يريد نفسه.أو نبه3 في الأول على أن النبأ لشدته تركه حائرا، فما فَطِنَ معه لمقتضى الحال؛ فجرى على لسانه ما كان ألِفه من الخطاب الدائر في مجاري أمور الكبار أمرا ونهيا. وفي الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى أفاق شيئا، فلم يجد النفس معه، فبنى الكلام على الغيبة. وفي الثالث على ما سبق.أو نبه4 في الأول على أنها حين لم تثبت ولم تتبصر غاظه ذلك؛ فأقامها مقام المستحق للعتاب، فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعيير بذلك، وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب لما كان هو الغيظ والغضب، وسكن عنه الغضب بالعتاب الأول، ولى عنها الوجه وهو يُدمدم قائلا: "وبات وباتت له"، وفي الثالث على ما سبق.هذا كلامه، ولا يخفى على المنصف ما فيه من التعسف5.
__________
ص155----158
الباب الثالث: القول في أحوال المسند
حذف المسند:
وكقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] أي: كمن لم يزين له سوء عمله. والمعنى: أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما
__________
-الذين كفروا، والذين آمنوا- كمن لم يزين له سوء عمله؟ ثم كأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له ذلك قال: لا، فقيل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] . وقيل: المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات؟ فحذف الجواب1 لدلالة: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أو "المعنى": أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟ فحذف لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .وأما قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] , وقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1] , وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] فكل منها يحتمل الأمرين: حذف المسند إليه، وحذف المسند؛ أي: فأمري صبر جميل، أو: فصبر جميل أجمل2، و: هذه سورة أنزلناها، أو: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، و: أمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو: طاعتكم طاعة معروفة، أي: بأنها بالقول دون الفعل، أو: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.ومما يحتمل الوجهين قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171] قيل: التقدير: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، ورد بأنه تقرير لثبوت "آلهة"؛ لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدأ, كما تقول: "ليس أمراؤنا ثلاثة" فإنك
__________
تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة، دون أن تكون لكم أمراء، وذلك1 إشراك، مع أن قوله تعالى بعده: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يناقضه.والوجه: أن {ثَلَاثَةٌ} صفة مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف مميزه، لا خبر مبتدأ، والتقدير: "ولا تقولوا لنا -أو في الوجود- آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة"2 ثم حُذف الخبر كما حُذف من "لا إله إلا الله"، و"ما من إله إلا الله", ثم حذف الموصوف أو المميز كما يحذفان في غير هذا الموضع؛ فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة، وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين، مع أن ما بعده أعني قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ينفي ذلك، فيحصل النهي عن الإشراك والتوحيد من غير تناقض؛ ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال: "ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان"؛ لأنه كقولنا: "ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان" وهذا صحيح، ولا يصلح أن يقال على التقدير الأول: "ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، ولا اثنان"؛ لأنه كقولنا: "ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنين" وهذا فاسد، ويجوز أن يقدر: "ولا تقولوا: الله والمسيح وأمه ثلاثة3؛ أي: لا تعبدوهما كما تعبدونه"؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] فيكون المعنى "ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة"؛ فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد إلحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما شبيهان له أن يقال: "هم ثلاثة"، كما يقال إذا أريد إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه: هما اثنان.واعلم أن الحذف لا بد له من قرينة؛ كوقوع الكلام جوابا عن سؤال: إما
__________
محقق1 كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] , وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] ، وإما مقدر، نحو:ليُبْكَ يزيد ضارع لخصومة2
وقراءة من قرأ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ} [النور: 36] وقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3] ببناء الفعل "يسبَّح، ويوحَى" للمفعول3. وفضل هذا التركيب على خلافه -أعني نحو: "ليبك يزيد ضارع" ببناء الفعل للفاعل، ونصب "يزيد"- من وجوه: أحدها أن هذا التركيب يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين؛ إجمالا ثم تفصيلا، والثاني أن نحو "يزيد" فيه ركن الجملة لا فضلة4، والثالث أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل، فيكون عند ورود ذكره كمن تيسرت له غنيمة من حيث لا يحتسب، وخلافه بخلاف ذلك.
ص196
الباب الرابع: القول في أحوال متعلَّقات الفعل 1
حال الفعل مع المفعول والفاعل:حال الفعل مع المفعول كحاله مع الفاعل2؛ فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك أن تفيد وقوعه منه، لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، كذلك إذا عدّيته إلى المفعول كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه، لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما؛ فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه، والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. أما إذا أُريد الإخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعلم ممن وقع في نفسه3 أو على من وقع، فالعبارة عنه أن يقال: كان ضرب، أو وقع ضرب، أو وُجد، أو نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد.أغراض حذف المفعول به: وإذا تقرر هذا فنقول:الفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله ولم يُذكَر له مفعول فهو على ضربين:
__________
الأول: أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق، أو نفيه عنه كذلك، وقولنا: "على الإطلاق" أي: من غير اعتبار عمومه وخصوصه، ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه، فيكون المتعدي حينئذ بمنزلة اللازم، فلا يُذكر له مفعول؛ لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار به باعتبار تعلقه بالمفعول1، ولا يقدر أيضا؛ لأن المقدر في حكم المذكور2.وهذا الضرب قسمان3؛ لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقا كناية4 عن الفعل, متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة، أو لا5.الثاني6: كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أي: من يحدث له معنى العلم ومن لا يحدث.قال السكاكي7: ثم إذا كان المقام خطابيا لا استدلاليا8 أفاد العموم في أفراد
__________
الفعل بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما تحكّم، ثم جعل قولهم في المبالغة: "فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع" محتملا لذلك1، ولتعميم المفعول2 كما سيأتي.وعده الشيخ عبد القاهر3 مما يفيد أصل المعنى على الإطلاق من غير إشعار بشيء من ذلك4.والأول5 كقول البحتري يمدح المعتز ويعرّض بالمستعين بالله "من الخفيف":شجو حساده وغيظ عِدَاه ... أن يرى مبصر ويسمع واعي6
أي: أن يكون ذا رؤية وذا سمع، يقول: محاسن الممدوح وآثاره لم تخف على من له بصر؛ لكثرتها واشتهارها، ويكفي في معرفة أنها سبب لاستحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع؛ لظهور دلالتها على ذلك لكل أحد, فحسّاده وأعداؤه يتمنون ألا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يسمع بها كي يخفى استحقاقه للإمامة, فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إياها. فجعل كما ترى مطلق الرؤية كناية عن رؤية محاسنه وآثاره، ومطلق السماع كناية عن سماع
__________
أخباره1. وكقول عمرو بن معديكرب "من الطويل":فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرّت2
لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم؛ حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبه وهو أنها أجرّته3.وكقول طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب "من الطويل":جزى الله عنا جعفرا حين أُزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلّت
أبوا أن يَمَلونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لاقوه منا لملت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت4
فإن الأصل: "لملتنا، وأدفأتنا, وأظلتنا" إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية5. فإن قلت: لا شك أن قوله: "ألجئوا" أصله: "ألجئونا" فلأي معنى حُذف المفعول منه؟ قلت: الظاهر أن حذفه لمجرد الاختصار؛
__________
لأن حكمه حكم ما عُطف عليه، وهو قوله: "خلطونا"1.الضرب الثاني2: أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول، فيجب تقديره بحسب القرائن3.ثم حذفه من اللفظ: إما للبيان بعد الإبهام، كما في فعل المشيئة إذا لم يكن في تعلقه بمفعوله غرابة4 كقولك: لو شئت جئت، أو لم أجئ؛ أي: لو شئت المجيء أو عدم المجيء؛ فإنك متى قلت "لو شئت" علم السامع أنك علقتَ المشيئة بشيء، فيقع في نفسه أن هنا شيئا تعلقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون، فإذا قلت: "جئت أو لم أجئ" عرف ذلك الشيء، ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] . وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الأنعام: 39] وقول طرفة "من الطويل":فإن شئت لم تُرقِل، وإن شئت أرقلت ... مخافة ملوي من القِدّ محصد5
وقول البحتري "من الكامل":لو شئت عدت بلاد نجد عودة ... فحللت بين عقيقه وزَرُوده6
__________
وقوله "من الكامل":لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد1
فإن كان في تعلق الفعل به غرابة ذكرت المفعول لتقرره في نفس السامع وتؤنسه به، يقول الرجل يخبر عن عزه: لو شئت أن أرد على الأمير رددت، وإن شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته. وعليه قول الشاعر "من الطويل":ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع2
فأما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب ابن عباد "من الطويل":فلم يبق مني الشوق غير تفكري ... فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا
فليس منه؛ لأنه لم يرد أن يقول: فلو شئت أن أبكي تفكرا بكيت تفكرا، ولكنه أراد أن يقول: أفناني النحول فلم يبق مني وفي غير خواطر تجول، حتى لو شئت البكاء فمريت جفوني، وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج منها بدل الدمع التفكر؛ فالمراد بالبكاء في الأول الحقيقي، وفي الثاني غير الحقيقي، فالثاني لا يصلح لأن يكون تفسيرا للأول3.وإما لدفع أن يتوهم السامع في أول الأمر إرادة شيء غير المراد؛ كقول البحتري:وكم ذدت عني من تحامل حادث ... وسَوْرة أيام حَزَزْن إلى العظم4
__________
إذ لو قال: "حززن اللحم" لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم ولم ينته إلى العظم، فترك ذكر اللحم ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلاالعظم.وإما لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه؛ إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه2؛ كقول البحتري أيضا "من المنسرح":قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مِثْلا3
أي: قد طلبنا لك مثلا في السؤدد والمجد والمكارم، فحذف المثل؛ إذ كان غرضه أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل4, ولأجل هذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله "من الوافر":ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما أن يكون أصاب مالا5
فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو "أمدح" في لفظ اللئيم، والثاني الذي هو "أرضي" في ضميره؛ إذ كان غرضه إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحا دون
__________
لإرضاء. ويجوز أن يكون سبب الحذف في بيت البحتري قصد المبالغة في التأدب مع الممدوح، بترك مواجهته بالتصريح بما يدل على تجويز أن يكون له مثل؛ فإن العاقل لا يطلب إلا ما يجوز وجوده1.وإما للقصد إلى التعميم2 في المفعول، والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره، مع الاختصار، كما تقول: "قد كان منك ما يؤلم" أي: ما الشرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان3، وعليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] أي: يدعو كل أحد4.وإما للرعاية على الفاصلة5 كقوله سبحانه وتعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1، 3] أي: وما قلاك6.وإما لاستهجان ذكره، كما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت:
"
ما رأيت منه، ولا رأى مني"7 تعني: العورة.وإما لمجرد الاختصار؛ كقولك: "أصغيت إليه" أي: أُذُني، "وأغضيت عليه" أي: بَصَري. ومنه قوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] أي: ذاتك. وقوله تعالى:
__________
{أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41] أي: بعثه الله. وقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] أي: إنه لا يماثل، "تعلمون" أو ما بينه وبينها من التفاوت، أو أنها لا تفعل كفعله، كقوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} 1 [الروم: 40] ويحتمل أن يكون المقصود نفس الفعل من غير تعميم، أي: وأنتم من أهل العلم والمعرفة2. ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم -من جعل الأصنام لله أندادا- غاية الجهل.ومما عد السكاكي3 الحذف فيه لمجرد الاختصار قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا} 4 [القصص: 23، 24] والأولى أن يجعل لإثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق كما مر5، وهو ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: تُرك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول، ألا ترى أنه رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا؟ وكذلك قولهما: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} المقصود منه السقي لا المسقيّ.واعلم أنه قد يشتبه الحال في أمر الحذف وعدمه لعدم تحصل معنى الفعل، كما في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
__________
[الإسراء: 110] فإنه يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء، فلا يقدّر في الكلام محذوف، وليس بمعناه؛ لأنه لو كان بمعناه لزم إما الإشراك أو عطف الشيء على نفسه؛ لأنه إن كان مسمى أحدهما غير مسمى الآخر لزم الأول، وإن كان مسماهما واحدا لزم الثاني، وكلاهما باطل، تعالى كلام الله عز وجل عن ذلك؛ فالدعاء في الآية بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين، أي: سموه الله أو الرحمن أيا ما تسموه فله الأسماء الحسنى1 كما يقال: "فلان يدعى الأمير" أي: يسمى الأمير. وكما في قراءة من قرأ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] 2 بغير تنوين، على القول بأن سقوط التنوين لكون الابن صفة واقعة بين علمين، كما في قولنا: "زيد بن عمرو قائم" فإنه قد يُظن أن فعل القول فيه لحكاية الجملة كما هو أصله3. فقيل: تقدير الكلام: "عزير ابن الله معبودنا"، وهذا باطل؛ لأن التصديق والتكذيب إنما ينصرفان إلى الإسناد لا إلى وصف ما يقع في الكلام موصوفا بصفة، كما إذا حكيت عن إنسان أنه قال: "زيد بن عمرو سيد" ثم كذبته فيه، ولم يكن تكذيبك أن يكون زيدٌ ابنَ عمرو، ولكن أن يكون زيد سيدا، فلو كان التقدير ما ذكره، لكان الإنكار راجعا إلى أنه معبودهم، وفيه تقرير أن عزيرا ابن الله, تعالى الله عن ذلك، فالقول في الآية بمعنى الذكر4؛ لأن الغرض الدلالة على أن اليهود قد بلغوا في الرسوخ في الجهل والشرك إلى أنهم كانوا يذكرون عزيرا هذا الذكر، كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بالغلو في أمر صاحبهم وتعظيمه: "إني أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما؛ فهم يقولون أبدا: زيد الأمير" تريد أنه كذلك يكون
__________
ذكرهم له إذا ذكروه.واعلم أن لحذف التنوين من "عزير" في الآية وجهين1:أحدهما: أن يكون لمنعه من الصرف لعُجمته وتعريفه كعازَرَ2.والثاني: أن يكون لالتقاء الساكنين؛ كقراءة من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] بحذف التنوين من {أَحَدٌ} ، وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] بحذف التنوين من "سابق" ونصب "النهار" فقيل له: وما تريد؟ فقال: "سابقٌ النهارَ". فالمعنى على هذين الوجهين كالمعنى على إثبات التنوين، فعزير مبتدأ "وابن الله خبره"، و"قال" على أصله3, والله أعلم.
__________
أغراض تقديم المتعلقات:أغراض تقديم المتعلقات على الفعل: وأما تقديم مفعوله ونحوه1 عليه؛ فلرد الخطأ في التعيين2, كقولك: "زيدًا عرفتُ" لمن اعتقد أنك عرفتَ إنسانا وأنه غير زيد، وأصاب في الأول دون الثاني، وتقول لتأكيده وتقريره: "زيدا عرفت لا غيره"؛ ولذلك لا يصح أن يقال: "ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس"؛ لتناقض دلالتي الأول والثاني3، ولا أن تُعقب الفعل المنفي بإثبات ضده، كقولك: "ما زيدا ضربت ولكن أكرمته"؛ لأن مبنى الكلام ليس على أن الخطأ في الضرب فتردّه إلى الصواب في الإكرام، وإنما هو على أن الخطأ في المضروب حين اعتُقد أنه زيد، فرده إلى الصواب أن تقول: ولكن عمرا4.وأما نحو قولك: "زيدا عرفته"5 فإن قُدر المفسَّر المحذوف قبل المنصوب؛ أي: عرفت زيدا عرفته، فهو من باب التوكيد؛ أعني تكرير اللفظ، وإن قدر بعده، أي: "زيدا عرفت عرفته" أفاد التخصيص. وأما6 نحو قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}
__________
اختصاصه بالعرب دون العجم؛ لانحصار الناس في الصنفين، ومن الثاني1 اختصاصه بالإنس دون الجن؛ لانحصار من يُتصوّر الإرسال إليهم من أهل الأرض فيهما. وعلى تقدير الاستغراق لا يلزم شيء من ذلك؛ لأن التقديم لما كان مفيدا لثبوت الحكم للمقدَّم ونفيه عما يقابله؛ كان تقديم "للناس" على "رسولا" مفيدا لنفي كونه رسولا لبعضهم خاصة2؛ لأنه هو المقابل لجميع الناس، لا لبعضهم مطلقا ولا لغير جنس الناس3.وكذلك يُذْهَب في معنى قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] إلى أنه تعريض بأن الآخرة التي عليها أهل الكتاب فيما يقولون: "إنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وإنه لا تمسهم النار فيها إلا أياما معدودات، وإن أهل الجنة لا يتلذذون في الجنة إلا بالنسيم والأرواح العَبِقة والسماع اللذيذ"4 ليست الآخرة5 وإيقانهم بمثلها ليس من الإيقان بالتي هي الآخرة عند الله في شيء، أي: بالآخرة يوقنون لا بغيرها كأهل الكتاب.ويفيد التقديم في جميع ذلك -وراء التخصيص- اهتماما بشأن المقدم؛ ولهذا قدر المحذوف في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} مؤخرا، وأورد قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فإن الفعل فيه مقدم، وأجيب بأن تقديم الفعل هناك6 أهم؛ لأنها أول سورة نزلت. وأجاب السكاكي7 بأن {بِاسْمِ رَبِّكَ} متعلق بـ "اقرأ" الثاني8، ومعنى الأول: افعل القراءة وأوجِدها، على نحو ما تقدم في قولهم: "فلان يعطي ويمنع"، يعني: إذا لم يُحمَل على العموم9, وهو بعيد10.
_________
أغراض تقديم بعض المعمولات على بعض:وأما تقديم بعض معمولاته على بعض فهو:إما لأن أصله التقديم ولا مقتضي للعدول عنه1؛ كتقديم الفاعل على المفعول2 نحو: "ضرب زيد عمرا"، وتقديم المفعول الأول على الثاني، نحو: "أعطيت زيدا درهما".وإما لأن ذكره أهم، والعناية به أتم3.
________
فيقدم المفعول على الفاعل إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه، لا وقوعه ممن وقع منه؛ كما إذا خرج رجل على السلطان وعاث في البلاد وكثر منه الأذى، فقُتل، وأردت أن تخبر بقتله، فتقول: "قَتَلَ الخارجيَّ فلانٌ" بتقديم "الخارجي"؛ إذ ليس للناس فائدة في أن يعرفوا قاتله، وإنما الذي يريدون علمه هو وقوع القتل به ليخلُصوا من شره.ويقدم الفاعل على المفعول: إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه، لا وقوعه على من وقع عليه، كما إذا كان رجل ليس له بأس ولا يُقدّر فيه أن يَقتل، فقتل رجلا، وأردت أن تخبر بذلك، فتقول "قتل فلان رجلا" بتقديم القاتل؛ لأن الذي يعني الناس من شأن هذا القتل ندوره وبعده من الظن، ومعلوم أنه لم يكن نادرا ولا بعيدا من حيث كان واقعا على من وقع عليه، بل من حيث كان واقعا ممن وقع منه.وعليه قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] ، قدم المخاطبين1 في الأولى دون الثانية؛ لأن الخطاب في الأولى للفقراء، بدليل قوله تعالى: {مِنْ إِمْلَاقٍ} ، فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أولادهم، فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم، والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل قوله: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ؛ فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع؛ فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم؛ لأن حاصل، فكان2 أهم؛ فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم.وإما لأن في التأخير إخلالا ببيان المعنى؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ
__________
ادب وبلاغةadb-blagh.blogspot.com

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More